الجمعة، 1 مايو 2015

الهيئة العامة للمناورات الثقافية: ومشروع مجدي الجابري!


مرت الثقافة الجماهيرية بمراحل وأنماط مختلفة من مشاريع وتجارب خلق الكوادر القيادية، ونشرها، وتوزيعها، وهي قصة ذات تقلبات عديدة، ولها وقع تراجيدي أحيانا، ونكهة كوميدية مؤسية أحيانا أخرى، وبموازاة هذه القصة تأتي قصة أخرى أكثر درامية للمناورات الكبرى التي صنعت المعالم البارزة في تاريخ الثقافة الجماهيرية قبل أن تتحول إلى ما يشبه الحذاء الصيني الخاص بها، ذلك الحذاء الذي يسجن قدميها ويقيد حركتها، دون أن تستطيع أن تتخلى عنه، بحيث باتت غير قادرة على ملامسة الأرض التي تقف عليها بدونه.
كان المشروع الأصيل لسعد كامل يقوم على زرع كفاءات مبدعة ذات رؤية سياسية، لرأب الفجوة بين ما هو ثقافي وما هو جماهيري، والمشكلة أن ما هو جماهيري هنا كان معرفا بوصفه هلام ينتظر شكله الذي سيحصل عليه إن استطعنا لمسه بعصا الثقافة السحرية (التقدمية طبعا) بحيث سيجري الدم في عروقه على الفور ليصبح ذلك الكائن الذي تخيلناه دائما!. 
هذا المشروع ظل في أغلبه مجرد طموح عابر، والثمار التي تمكن من بذرها تم اقتلاعها سريعا، بالإضافة إلى أن البعض إعتبر أن هذا المشروع قد عرض الكيان الذي أسسه ثروت عكاشة للخطر نتيجة انزلاقه إلى التورط في صراعات تخص دوائر الحكم، فضلا عن اندفاع كوادره إلى مواجهات مع السلطات المحلية لم تكن تتسم دائما بالحكمة نتيجة عدم قدرتهم على التفرقة بين مواقفهم السياسية الشخصية، الحادة، وبين واجباتهم الوظيفية، أوعلى الأقل فهذا ما كان يفكر فيه "سعد الدين وهبة" وهو يؤسس مشروعه الجديد، والذي قدر له أن يمنح الثقافة الجماهيرية شكلها الذي عرفت به لزمن طويل.
أدرك وهبة إذا أن التصادم مع السلطات المحلية سيخنق مساحة الحركة، وأن التهاون معها سيجعلها تصادر النشاط لصالحها وتديره طبقا لعقليتها الضيقة، وكلتا الحالتين ستجلبا الدمار للثقافة الجماهيرية. كما أدرك أنه لا يستطيع أن يغلق الباب أمام المبدعين والمثقفين، وإلا فقدت الثقافة الجماهيرية شرعية وجودها، مثلما لا يستطيع تركهم يمارسون نشاطهم عبر حالة من الإحتكاك الحر بالجماهير والسلطات، والتي قد تؤدي إلى نتائج عير محسوبة أو لا يمكن السيطرة عليها، وبالتالي فالأمر برمته يستلزم المناورة بين هذه الحدود بشكل دائم، وهو ما يستدعي وجود قيادات ذات طبيعة خاصة.
قام "وهبة" باستقطاب العديد من الشباب الذين هم في مستهل حياتهم العملية، فأعاد تدريبهم، ومنحهم المناصب القيادية والتنفيذية في معظم المواقع، وبوصفه سندهم الأوحد تقريبا كان يظل على صلة شبه يومية بهم، جميعا!، يحميهم ويساندهم أمام الأجهزة التنفيذية التي يتعاملون معها، ويذيبهم داخل طريقته في إدارة النشاط الثقافي، أحيانا، أو المناورة به، غالبا، ليؤسس نظاما مكنه من التحويل الآمن لبعض نطاقات الهيئة إلى مخازن تستوعب المبدعين والمثقفين ذوي الخلفية السياسية (اليسارية تحديدا) والذين كان يتعين عليهم إما القبول بتجميد دائم، أو القناعة بتحرك محسوب تحت مظلة تلك القيادات التي باتت تعرف باسم "جيل سعد الدين وهبة". 
وأيا كان مدى الاختلاف حول النظام الذي أسسه "وهبة" (وهو اختلاف بعضه شديد وعنيف، وقاسي أحيانا) فقد تمكن من حفظ كيان الثقافة الجماهيرية، وربما لولاه لكانت قد تحولت إلى وحدات محلية لا يشعر بوجودها أحد (وهو إقتراح لا زال يتردد بين الحين والآخر)، أما استراتيجية المناورة التي ابتكرها فقد أتاحت عبورا هادئا إلى حد ما لصحراء ثقافة السبعينيات القاحلة، التي عانت من نظام معادي للثقافة، وشهدت لأول مرة في التاريخ حالة هجرة جماعية للمثقفين المصريين.
مناورة حسين مهران، ثاني المناورات الكبرى في تاريخ هذا الكيان، كان لها طابعها الخاص، وتعقيداتها الأكثر درامية، فهو أول من تولى الهيئة دون أي خلفية ثقافية معروفة، ولكنه كان يمتلك خبرة إدارية تتميز بطموح غير محدود، وبالقدرة على إلتقاط ما تحتاجه وفقط لإكمال مهامها، وكما كان لوهبة اتصالات بدوائر السلطة العليا سهلت له الحركة، فقد تمتع مهران بشيء مشابه مع دوائر أقل ولكنها فعالة، أما إتجاه مناورته وطبيعتها فقد كانت معكوس ما قام به "وهبة" الذي كان يتجه إلى تحاشي السياسة (إتقاءا لشرها) مع الاستفادة منها في الوقت نفسه، فيما لم يجد مهران حرجا –بسبب طبيعته الإدارية- في إعادة تعريف ما هو ثقافي بوصفه أداة للإستخدام السياسي الموجه. وهكذا، إرتبطت قصور الثقافة منذ ذلك الحين بتعبيرات من قبيل مكافحة الإرهاب والتطرف الديني، بل وتخلق خطاب (داخل وخارج الهيئة) يربط وجودها ويبرره إنطلاقا من دورها في هذا الشأن، وبغض النظر عما تحقق بالفعل على الأرض، فقد كان الأمر في جوهره محض مناورة تمكن مهران عبرها من توسيع مجال أنشطة الهيئة، وزيادة مواقعها، ومضاعفة ميزانيتها، وتعديل وضعها القانوني، بحيث وصلت الهيئة حينها إلى أقصى حد من الإنتشار الذي يسمح به نظامها المتهالك أصلا، وأصبح يشار إليها بإعتبارها "وزارة الثقافة الحقيقية"، أو التنفيذية!!
وقد إستلزمت مناورة مهران وحملاته التوسعية الإستعانة بالمزيد من الكوادر والقيادات لتحقيقها، لكن هذا يردنا إلى القصة الثانية، قصة قيادات الهيئة.
سيطر الجيل الذي أسسه "وهبة" على مجريات العمل بالهيئة لعقود طويلة، وكان أفراده متفاوتي الطموح والموهبة، مثقفين بوجه عام أكثر منهم مبدعين، تربوا على النظر بقلق وريبة (ممزوج بالتعاطف أحيانا!) إلى حالات الجموح والإندفاع المصاحبة دائما لما هو إبداعي. هذا الجيل كان موسوما بطالع مأساوي، فبعضه بدأ حياته العملية وأنهاها بعد عقود وهو لم يبارح مكانه، وبعضهم صعد قليلا أو كثيرا في السلم الوظيفي، ولكن لا أحد جلس على مقعد وهبة باستثناء على ابو شادي والذي لم يستطع الاستمرار فيه سوى عدة أشهر ثم أقيل، ورغم أنه قد عاد ثانية ليتولى كبرى المناصب في الوزارة، وجاء وقت كان مسئولا فيه عن ثلاث كيانات كبرى، ولكن ليس الثقافة الجماهيرية، ولم يكن هذا محض مصادفة.
هذا الجيل كان أكثر إنشغالا بذاته وبانضباط المناورات الثقافية التي درب عليها، بحيث لم يستطع، وربما لم يهتم، بخلق كوادر تخلفه، كان معاونوه الأساسيون وأهل ثقته هم السكرتارية، ومع مطلع هذا القرن، عندما بدأ هذا الجيل في التواري تماما عن الساحة مرت الهيئة بفترة "عصر السكرتارية" الذين تبوءوا فجأة أغلب مقاعد الصف الأول، وهو عصر لم يستمر طويلا، نتيجة لضآلة الفارق العمري بين من كان مديرا ومن كان سكرتيرا، ولكنه كان بمثابة أكتمال ذوبان المساحيق عن وجه تلك الهيئة العجوز وانكشافها وهي تحاول تقليد ماضيها لتواصل المناورة بما لم يعد موجودا، نحو من لم يعد يهتم!. وهو ما استمر مع "نوار" ومشروع إعادة توطين التشكيليين في الهيئة (غرباء قوم)، و"مجاهد" الذي شهد وساهم في تحويل العاملين إلى جمهور، وربما شعب، وصولا إلى "سعد عبد الرحمن": ليرث الموظفون الهيئة بعد أن فشلوا في إدارتها.
إذا كان تعريف ما نطلق عليه جيل قيادات الهيئة هو مجموعة كبيرة من الكوادر التي انضمت للهيئة في فترة متزامنة ووضعت بصمتها وفرضت طابعها على ما تلاها، فطبقا لهذا التعريف يمكننا الحديث عن "جيل مهران"، الذي باغت جيل وهبة، وتفاعل معه على نحو بالغ الدرامية.
فمع بداية توسعات "مهران" كان "جيل وهبة" قد إستقر في آخر محطاته المتقدمة تقريبا، وبدا أن الأمر بحاجة إلى دماء مختلفة عن معاونيهم (السكرتارية)، ولذلك تم في هذه الفترة إلحاق كم كبير من شباب المبدعين والمثقفين، والذين كان مطلوبا منهم إجادة عمليات إستخدام الثقافة بغض النظر عن علاقتهم الحقيقية بها، ولكن هذا لم يكن الشرط الوحيد لنجاحهم في البقاء وظيفيا، فمن بقى من "جيل وهبة" تعامل معهم بنفس النظام الذي نشأ عليه، حيث المخزن والتشغيل المشروط دون أن تكون هناك حاجة لأي منهما، ولكن المشكلة الأدق أن مهران كان يتجاوب مع هؤلاء الشباب مباشرة أحيانا، ربما من منطلق إداري بحت، وربما لأنه كان مستوعبا لتجربة وهبة في التواصل المباشر مع القيادات الصغيرة ويريد صنع شيئا مماثلا حتى يكون لتوسعاته مستقبل، ولكن في كل الأحوال فقد أثار ذلك عاصفة من القلق لدى جيل وهبة الذي عاش حياته الوظيفية تحت ضغط توتر غير معترف به من فكرة "البديل"، وأكثرهم تقدما في الصفوف (والعمر أيضا) تصالح مع الأمر على أن يحل هو محل صورة الأب "وهبة" ليختار، ويقصي، ويختبر، ويمنح ... ويصنع قياداته ... ويرسخ ولاءاتهم لينافس بها أقرانه!. وهكذا، فما أن وضع جيل مهران أقدامه داخل الهيئة حتى وجد نفسه موضوعا لصراعات عنيفة بين قياداتها.
من بعيد كانت تلك العمليات تشبه سوقا لشراء المماليك، ووقتها كنت أمازح أصدقائي بدعابات تاريخية تقارن بين المماليك البرجية والبحرية، ومماليك النشر والثقافة العامة، ولكن الأمر على الأرض كان أكثر مأساوية من أي مزاح، فبعض هؤلاء الشباب الذين كانوا موضوعا لصراع لا يفهمونه، تشوهوا بلا رجعة، والبعض الآخر إختفى إلى الأبد كمبدع، لكن البعض الآخر كان مجدي الجابري في إستقباله!
خلال المراحل التي مرت بها الهيئة، كانت تظهر من حين لآخر دوائر صغيرة، غير رسمية، وذات طابع شديد المحلية غالبا، يتجمع حولها بعض النشطاء ليؤسسوا حالة ما بصدد الثقافة الجماهيرية كمؤسسة،، رؤية حول دورها، أو طريقة التعامل معها، أو بغية الإعتراض والاحتجاج ضدها، أو حتى حالة موحدة من المواقف وردود الفعل إزاءها ... الخ. إنها كيانات أقل كثيرا من أن تكون جماعات ضغط ظاهرة الأثر، وأكثر قليلا من أن تكون مجرد تقاطعات أو توافقات عابرة حول موضوعة بعينها. ونوادي الأدب تحديدا عامرة دائما بمثل هذه الدوائر التي توالي الظهور والإختفاء بإستمرار. وبرغم أن هذه الدوائر لا تعي ذاتها غالبا، ولا يكاد يشعر بوجودها أحد إلا أعضائها والقريبون منهم، إلا أنها أحيانا، وفي غياب الإعداد الممنهج للقيادات، قد تصبح ملحوظة التاثير على تكوينهم ونظرتهم للعمل العام، وسعد عبد الرحمن، مثلا، بحكم تكوينه الإقليمي، كان منخرطا ومتأثرا ببعض هذه الدوائر التي تظل في النهاية –عدا استثناءات طفيفة- مجرد بقع أو بثور على سطح تاريخ لم يرصد بعد.
وفي مركز أحد تلك الدوائر يأتي "مجدي الجابري"، الذي كان بذاته ومفاهيمه، هو ما يحتاجه سعد كامل بالضبط لإنجاح مشروعه، لكنه جاء متأخرا عدة عقود!، فهو من زاوية الإبداع كان أحد الآباء الرواد للقصيدة الجديدة في شعر العامية، وبحكم تكوينه كان قيادة ثقافية "طليعية" -غير رسمية- بين اقرانه، يمهد لهم طرق استقبال الأفكار "الحداثية" الجديدة التي كانت في سبيلها للإنتشار في ذلك الوقت، ويجتهد في توفير سبل إطلاعهم على مصادرها الأساسية، أما على المستوى العام، فكان يمتلك تصورا متناغما ومتكاملا حول ما ينبغي أن يكون عليه مشروع المثقف المصري تجاه إبداعه، ووسيلة عيشه، وظروف مجتمعه، وكيفية بناء علاقة صحية ومنتجة بالمؤسسة الثقافية، وآراؤه في هذا الشأن كانت أكثر بساطة وعملية من الرطان الكبير لخطاب "المثقف و الأمير" الذي كان تداوله قد بدأ حينها. 
ساهم الجابري وساعد العديد من أبناء جيله في الإلتحاق بالهيئة زمن مهران، ومنهم على سبيل المثال، "مسعود شومان"، و"شحاتة العريان"، وكاتب هذه السطور: (أقنعني الجابري بإنهاء إثنى عشر عاما قضيتها هائما بلا مقر في صحراء الحياة العملية خشية من استقرار يقتل الروح: من كان يعرف وقتها أن الروح لا تحتاج أبدا لقاتل من الخارج!). 
ساهم الجابري ايضا في التخفيف من إستجابة البعض للنكهة الإنتهازية الكامنة في مبدأ "إستخدام الثقافة"، ومن إنخراطهم أكثر مما ينبغي في صراعات الهيئة، وكان يتجول بين هؤلاء الوافدين الجدد مثل المستكشف الذي يبحث عما هو جدير بالعناية والإلتفات (أتذكر حين أخبرني منذ ربع قرن أنه تعثر بموظف جديد اسمه محمود حامد ودعاني للتعرف عليه والحوار معه).
ولكن في النهاية شهد "جيل مهران"، وشارك، إن لم نقل أنه تسبب، في تحول كبير في استراتيجيات المناورة بالهيئة، من مهارات جيل وهبة في المناورة مع الأجهزة التنفيذية، ومع جموح ما هو إبداعي، وإنفلاته أحيانا، إلى المناورة الداخلية بين اقطاب الهيئة وبهم، وذلك نتيجة تفجر الصراعات بين الجيلين، بحيث أصبحت الهيئة اقل تركيزا في التعامل مع ما هو خارجها، على حساب إنهماكها في تحقيق توازنها الداخلي، وهذه الفترة شهدت الأحداث المتعلقة برواية "وليمة لأعشاب البحر"، ثم الروايات الثلاثة، وهو ما زاد الهيئة إلتواءا تجاه الداخل، وعزوفا عن التفاعل مع الخارج.

وعبر هذا الوقت الذي يتطلب بالتأكيد ما هو أكثر من إيماءة نوستالجية إلى الماضي أكاد أرى الجابري الآن يقف في المواجهة مثل شبح هاملت، الذي لم يعد بمقدوره الإهتمام بنجاة الدانمارك أو خرابها، ناظرا إلى هيئة أدمنت على المناورة بالثقافة وفيها على حساب الإشتغال بها، قبل أن تغرق في مناوراتها الداخلية ...... فماذا أنت فاعل يا "مسعود".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق